الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
لأن الظلم تصرف في حق الغير فيما لا يحل، واللّه جل شأنه متصرف في ملكه لأن الكل تحت قبضته، فلو أن أحدا هدم داره أو أحرق متاعه هل لأحد معارضته وهل عليه عقاب ما؟ كلا البتة، فإذا كنا نحن العبيد لنا التصرف المطلق فيما ملكناه اللّه لأن ملكنا له مجاز، فكيف يعترض أحد على المالك الحقيقي إذا تصرف في ملكه.راجع الآية 28 من سورة الأعراف في ج 1 والآية 73 من سورة الزخرف المارة ولهذا البحث صلة في الآية 19 من سورة الطور والآية 24 من سورة الحاقة الآتيتين فراجعه تجد ما يسرك إن شاء اللّه. {هلْ يَنْظُرُونَ} هؤلاء الجاحدون نبوتك يا سيد الرسل المنكرون وحينا إليكِ {إلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ} بقبض أرواحهمَ {أو يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} بعذابهم الدنيوي، وهذه الآية من آيات الصفات التي أشرنا إليها غير مرة بأن مذهب السلف الصالح إبقاؤها على ظاهرها ومذهب الخلف وبعض المتكلمين، على تأويلها بما يناسبها، راجع الآية 67 من سورة الزمر المارة وما ترشدك إليه {كذلِكَ} مثل فعل هؤلاء {فعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من الكفر والتكذيبَ {وما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} بتعذيبهم من أجله {ولكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بما عملوا من الخبائث {فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا} في دنياهم {وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} 34 على الرسل وما جاءوهم به من عندنا جزاء كسبهم هذا بما لا تطيقه أجسامهم {وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاء اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} وهذا القول منهم على سبيل السخرية والاستهزاء، ولو قالوه اعتقادا جازما لأصابوا المرمى، ويؤذن قولهم أن لا فائدة من بعثة الرسل، لأن المشيئة اللّه، لو أراد لم يحرم شيئا ولم نعبد شيئا، وهذا أيضا اعتراض منهم على اللّه جار مجرى العلة في أحكام اللّه تعالى، وهو باطل لأنه لا يجوز أن يقال لم فعل اللّه كذا، ولم لم يفعل كذا، لأن أفعال اللّه لا تقلل، وكان في حكمة اللّه تعالى وسنته إرسال الرسل ليأمروا عباده بعبادته، وينهوهم عن الإشراك به والتعدي على الغير، وإن الهداية والإضلال أمرهما في الحقيقة إليه، وهذه سنته في عباده يهدي من يشاء ويضل من يشاء لا اعتراض عليه.ولما كانت سنته بإرسال الرسل إلى الكافرين قديمة لا محدثة ولا طارئة ولم يبتدعها ببعثة محمد صلّى اللّه عليه وسلم فيهم كان قولهم {لو شاء اللّه} إلخ جهلا، لاعتقادهم أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثتهم وهو أيضا اعتقاد باطل.قال تعالى: {كَذلِكَ} مثل فعلهم هذا {فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} إذ كذبوا الرسل وأحلوا ما حرم اللّه وحرموا ما أحله {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} هذا استفهام تقريري، أي ليس عليهم إلا التبليغ القولي وليس عليهم قسرهم على الإيمان وجبرهم على الهداية وإجبارهم على الرشد، راجع الآية 149 من سورة الأنعام المارة {وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} كما بعثناك في أهل مكة وأمرنا كلا من الرسل أن يقولوا لقومهم {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} مبالغة في الطغيان والطاغية ويطلق على كل من عبد من دون اللّه حاشا الملائكة وعزيز وعيسى وعلي عليهم السلام وغيرهم من الصالحين لعدم علمهم ورضاهم {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ} فتاب وأناب واتبع طريقهم الموصل إليه ففاز برضائه {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} فلم ينتفعوا بهدى رسولهم لسابق ثقائهم في علم اللّه وإرادته إضلالهم لسوء طويتهم فهلكوا وخابوا وخسروا الدنيا والآخرة، وهذه الآية كافية للدلالة على أن اللّه تعالى هو الهادي والمضل دون اعتراض، إذ لا يقع في ملكه إلا ما يريد {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا} أيها الناس {كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} 36 حيث بقيت مساكنهم خاوية بسبب العذاب الذي حل بهم، وفيها تنبيه على أنكم يا أهل مكة إذا أصررتم على الكفر يكون مصيركم مثلهم، قال تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ} يا سيد الرسل وتجتهد كل الاجتهاد لا يغير ما هو مدون في أزلنا أبدا {فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} أبدا ولو أطبق الخلق على إضلال من هداه لن يقدروا أيضا {وَما لَهُمْ} الضالين {مِنْ ناصِرِينَ} 37 يمنعونهم من عذاب اللّه المقدر لهم ولا يقدر أحد أن يهديهم أيضا، {وَأَقْسَمُوا} هؤلاء الكفرة الضالون {بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} قال ابن الجوزي أتى رجل مسلم يتقاضى دينه من كافر، فقال فيما قال والذي أرجوه بعد الموت، فقال الكافر أترجو وتزعم هذا واللّه لا يبعث من يموت.فنزلت هذه الآية ردا عليه وتكذيبا له، وهو قوله: {بَلى} يبعث من يموت {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} منجزا على طريق عدم جواز الخلف على اللّه إن اللّه لا يخلف الميعاد ومن أصدق من اللّه قيلا {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} كيفية ذلك، لأنهم يقولون إن هذه البنية إذا بليت وتفرقت أجزاؤها امتنع عودها بعينها، لأن الشيء إذا عدم فقد فني ولم تبق له ذات ولا حقيقة، ولم يعلموا أن اللّه تعالى الذي بدأ خلقهم قادر على إعادتهم كما كانوا عليه، وهو أهون عليه لأن خلقهم من لا شيء على غير مثال والصعوبة إنما تكون في الابتداع لا في التقليد، فهذه السيارات والطائرات والراد والكهرباء وغيرها بعد أن اخترعت هان على العاملين عملها وكان العقل لا يصدق وجودها لو لم يشاهدها، فالفضل فيها للمبتدع لا للمقلد.واعلم أن الحكمة في إعادة الخلق أحياء في الآخرة {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ} اللّه الذي خلقهم أول مرة {الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} في الدنيا حقيقة وعيانا {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ} في إنكارهم البعث وتكذيبهم ما أخبرهم به الرسل من وجود الحساب والعقاب والجنة والنار ويتحقق أن اللّه تعالى إذا أراد شيئا كان لا محالة بدليل قوله: {إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} حالا بين الكاف والنون، أي يوجد عند وجود هذين الحرفين بل بينهما.روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «يقول اللّه تبارك وتعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، أما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله اتخذ اللّه ولدا وأنا الأحد {الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد}».واعلموا أيها الناس أن خلقكم وبعثكم عندنا كشيء واحد لا يصعب علي شيء من ذلك والإيجاد والإعدام عندنا سواء لا يتخلف شيء عن أمرنا طرفة عين، فانظروا أيها الناس واعلموا أن لا كلمة على الخلاق فيما يخلق ويفني.قال تعالى: {وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا} في الدنيا {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً} عظيمة وحسنى جليلة ونعما جسمية {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ} في الإحسان إليهم وأعظم أجرا إذا صبروا على ما أصابهم في الدنيا {لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} ما أعد اللّه لهم في الآخرة على صبرهم لزادوا في اجتهادهم على العبادة وفي صبرهم على أذى الكافرين وغيرهم.نزلت هذه الآية في أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الذين هاجروا إلى الحبشة بسبب أذى المشركين إليهم، وفيها دليل على أن الهجرة إذا لم تكن خالصة لوجه اللّه للتمكن من القيام بأوامره وعبادته كما ينبغي كانت كالانتقال من بلد لآخر للتجارة أو الزيارة لا مزيّة لها ولا شرف فيها ولا ثواب، يدل على هذا قوله صلّى اللّه عليه وسلم «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» إلخ.ثم وصفهم اللّه بقوله: {الَّذِينَ صَبَرُوا} على ظلم المشركين وأذاهم في سبيل اللّه {وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} في أمورهم كلها.واعلم أن الصبر والتوكل مبدأ السلوك إلى اللّه تعالى ومنتهاه، لأن الصبر قهر النفس وحبسها على أعمال البر واحتمال الأذى من الخلق وعلى الشهوات المباحات وعلى المصائب وعن المحرمات والتوكل انقطاع عن الخلق، فبهذا المنتهى والأول المبتدأ.
وأراد بالسرحة امرأة على طريق الكناية، أي تنشر ظلاله انتشارا {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ} صاغرون ذليلون، قال ذو الرمة: المخيس السجن {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} عن السجود لعظمته بل يتواضعون ويخشعون ويخضعون لهيبة جلاله {يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ}.
|